June 2007
القصة طريفة وتستحق أن تروي.. فحسب ما جاء عبر وكالات الأنباء أن مواطناً سعودياً ذهب إلي المحكمة ليرفع دعوي قضائية ضد مجموعة من الجن.. اتهام السعودي للجن كان محدداً.. فهم يزعجونه ويؤذونه بشكل يومي فلا يستطيع أن ينام.. وهو ما جعله يعيش حالة دائمة من القلق والتوتر، دعوي مثل هذه كان يجب أن يلقيها القاضي في وجه من أقامها والسبب بالطبع هو العته والتخلف العقلي، لكن قاضي محكمة المعارضة الذي نظر الدعوي اكتفي برفض الدعوي وقدم لذلك تبريراً قانونياً.. وهو أنه لا يحكم إلا في القضايا المتعلقة بالإنس فقط.. وأنه لا يوجد أي قاض يمكن أن يحكم في أمر يخص الجن، لأنه لم ترد في ذلك أي نصوص شرعية.
بهذا المنطق الغيبي المتهافت يفكر معظم الشعب السعودي وذلك لأنهم في النهاية تربوا علي أيدي شيوخ سلموا عقولهم للخرافة باسم الدين ويريدون أن يحكموا الدنيا، لا يوجد لدي الشعب السعودي ولا الأسرة الحاكمة السعودية شيء حضاري، يمكن أن يقدموه للعالم من حولهم يستطيعون به أن يسيطروا علي عقول وقلوب الناس.. ولذلك فإنهم في الغالب يحاولون استخدام المال لنشر أفكارهم التي يلبسونها إلي حد بعيد ثوباً إسلامياً وكأن هذا يكفي
بالنسبة لي يمتاز السعوديون بشيئين.. وهما في حقيقة الأمر لا شأن لهم بهما.. الميزة الأولي أن الرسول - صلي الله عليه وسلم - نزل عندهم.. والثانية أن البترول تدفق بغزارة من أرضهم.. وقدا اعتقدوا أن هذا كافٍ ليحكموا العالم.. الواقع فعلاً أن السعودية لا تريد أن تحكم العالم، لكنها فقط تريد أن تحكم وتتحكم في مصر، علي السطح يبدو أن هناك عقدا قديمة تحكم العلاقة بين المصريين والسعوديين، منها مثلاً جيش إبراهيم باشا بن محمد علي الذي خرج ليقمع الحركة الوهابية فدخل الدرعية مقر الحركة ومستقرها وهدمها علي رأس من فيها.. أو الإحساس بأن مصر كانت يدها هي العليا طويلاً.. ومشاوير الإعانات والمعونات والتكية المصرية إلي السعودية لاتزال حاضرة وماثلة في الأذهان.. أو أن هناك شعورا لدي السعوديين بأنهم يملكون المال ولديهم الإسلام وأماكنه المقدسة وعندهم بيت الله ومسجد الرسول.. فلماذا تتفوق مصر عليهم دائماً؟.
هذه العقدة تحديداً يمكن أن تفسر لنا حالة اللبس التي طغت علي السطح بعد توقيع عائشة عبدالهادي وزيرة القوي العاملة لبروتوكول تعاون مع السعودية.. يتم من خلاله سفر «مديرات» منزل مصريات إلي السعودية.. قد تكون الوزيرة حسنة النية فهي تبحث عن فتح سوق عمل جديدة وفي أي مكان يضمن دخلاً محترماً للفتيات المحترمات، نظرت إلي الهدف الذي تريده.. لم تلتفت لأي معني آخر يمكن أن يحمله مثل هذا الاتفاق.. لكن من وقعوا علي هذا الاتفاق من الجانب السعودي استغلوه أسوأ استغلال.. ذهبوا لتصوير الأمر في الصحف السعودية علي أن مصر سترسل ١٠٠ ألف «خادمة »للعمل في البيوت السعودية، ولا أستطيع بأي حال من الأحوال أن التمس للطرف السعودي العذر أو تقديم حسن النية.. فلابد أن سوء النية كان مبيتاً.. وتم الدفع بهذا التوصيف للعاملات المصريات علي سبيل الإهانة والتحقير!
هل ما حدث كان شيئاً جديداً؟ بالطبع لا.. ولن أكون مبالغاً أو واقعاً تحت تأثير مخدر نظرية المؤامرة إذا قلت إن مصر تتعرض ومبكراً جداً لمخطط سعودي للسيطرة علي مصر وصياغتها بشكل يتناسب مع الجو والشكل والروح الوهابية.. وهي روح في مجملها ضد الحياة.. وروح منافقة تعيش علي السطح الطقوس الإسلامية بحذافيرها.. لكنها تحت الثياب تسبح فوق بحيرة من الفساد والمعصية والعفن وقطع كل الطرق مع الله، أدرك السعوديون أنهم من الصعب أن يحتلوا مصر عسكرياً.. أن يأتي اليوم الذي يجلس فيه مواطن سعودي ليحكم مصر ويخطط لها مستقبلها قاهراً وقامعاً.
لكن الاحتلال ليس عسكرياً دائماً.. وجنود المعارك والحروب ليسوا عساكر مسلحين بالبنادق والمدافع والرشاشات، فهناك جنود آخرون كانت مهمتهم محو الشخصية المصرية، طمس ملامحها وجعلها بلا روح.. إن الإسلام الذي يعيشه المسلمون إسلام يتصالح مع الحياة.. ينسج بينه وبينها علاقة من نوع خاص لا تقوم علي القهر والتهديد والوعيد.. ولكن تقوم علي أن المصري يعرف ربه ويطمع في وجهه طوال الوقت.. وعندما تضيق به الحياة وتظلم حلقاتها.. فإن يد الله تمتد إليه من بين الظلمات لتنقذه في الوقت المناسب.. هذه الحالة من التصالح لم تعجب السعوديين فقرروا تصدير إسلامهم إلينا من جديد.
عبر آلاف المصريين الذين عملوا في السعودية جاءت الأفكار الوهابية.. شكلاً ومضموناً.. كان معظم هؤلاء مجرد عمال وصنايعية خرجوا من مصر وهم يحلمون بلقمة عيش.. فإذا بهم يعودون ومعهم ما لم يحلموا به من المال، عادوا وهم يلبسون الجلباب السعودي وبدأ تنتشر في مصر محلات لتفصيل الجلباب السعودي.. ولا يرتديه المصري فقط.. بل يضع في جيبه العلوي سواكاً كبيراً وكأنه سلاح يمكن أن يدافع به عن نفسه.. وكأن هذا السواك هو شهادة إسلامه.. ومادام الجلباب أصبح سيد الموقف.. فلابد أن كل رجل يرتديه ترتدي زوجته النقاب.. ولا مانع إذا كان من نفس لون وتصميم النقاب السعودي.. إن المصريين لا يميلون بطبعهم إلي الألوان السوداء فهي مقبضة.. لكن النقاب بألوانه جاء من السعودية ليحتل الشوارع المصرية.. وعندما تسير في بعض الشوارع المصرية.. فإنك لا تشك لحظة في أنك تسير في أحد أحياء السعودية.
الزي وحده لم يكن كافياً.. فعبر قنوات عديدة دخلت مصر كتيبات صغيرة عليها أسماء شيوخ السعودية الكبار الذي يحمون بظهورهم المذهب الوهابي أمثال ابن باز وابن عثيمين وصالح المنجد وغيرهم.. وهذه الكتيبات التي تباع في الغالب مجاناً تجدها تصل بسهولة إلي أيدي الشباب.. لا مكان في هذه الكتب لأي شيء حلال فكلها فتاوي تحريم لكل شيء وأي شيء.. وكأنهم أرادوا للناس أن يعيشوا العذاب مرتين.. إن هذه الكتب تطبع في مكتبات عديدة تحصل في معظمها علي تمويل مباشر من جهات سعودية.. وتخيل أن التكوين النفسي والعاطفي للشباب يمكن أن ينمو ويتصاعد علي أنغام هذه المحرمات
ولأن تأثير الكتب الذي زاد خلال فترة الثمانينيات والتسعينيات أصبح خافتاً.. فقد دخلت السعودية إلي نطاق المحطات الفضائية.. كانت باكورة إنتاجها في ذلك قناة «اقرأ» التي يملكها الشيخ صالح كامل وتمول بشكل يكاد يكون كاملاً من أموال الزكاة السعودية.. ظلت هذ القناة فترة طويلة الصوت الرسمي المعبر عن الوهابية.. ظلت تروج الكراهية والحقد والتحريم بين الناس.. جعلت من الإسلام كتلة صلبة من الصخر التي لا يمكن التعامل معها.. ولأنها كانت تغدق علي من يتحدثون فيها.. فقد استقطبت عدداً كبيراً من شيوخ الأزهر ورجال الدين المصريين ليتحدثوا فيها، ولأنهم حريصون علي عدم اغضاب صاحب المحل فقد تبني شيوخ الأزهر الذين من المفروض أن يمثلوا الدين الوسطي أفكار اللوهابية الصلبة.. وخطوة بخطوة وجدنا أنفسنا أمام شيوخ اسمهم مصري ولهجتهم مصرية.. لكن شكلهم وزيهم سعودي.. بل إنهم بدأوا يتحدثون مثلهم هل لأن أفكار السعودية كانت أصح.. لا بالطبع بل حدث ذلك لأن أموال السعودية كانت أكثر.
عندما وقع زلزال ١١ سبتمبر وأصبحت السعودية في مرمي السهام.. فكرت الإدارة السعودية أن تعمل علي تصحيح صورتها وتجميل وجهها.. فظهرت بعض الخطوات التي تشير إلي الانفتاح علي العالم، ولأنها لا تستطيع أن تغلق «اقرأ» صالح كامل.. فقد أعطت إشارة البدء للأمير الوليد بن طلال ليفتتح قناة «الرسالة» لتقدم الإسلام بشكل عصري.. فظهرت برامج فيها غناء وموسيقي وأذيعت عليها أفلام ومسلسلات.. وبعد أن كانت «اقرأ» تكفر كل هذه الفنون.. أصبحت «الرسالة» تحتفي بها.. لكن يبدو أن هناك من السعوديين من لا يرضي عن أداء «الرسالة».. ولذلك صاحب ظهور الرسالة قنوات إسلامية حملت أسماء عديدة مثل «الناس والحكمة وبركة».. وكلها يقف وراءها رجال أعمال سعوديون ويدعمون شيوخ السلفية في مصر.. حيث ه نجوم هذه القنوات والمتحكمون فيها.. بل هم الذين يصوغون سياستها.. ولا نقول بذلك إن المصريين يحكمون المحطات السعودية.. لأن هذه ببساطة بضاعتهم ردت إليهم.. فشيوخ السلفية ببساطة أمثال محمد حسين يعقوب ومحمد حسان وأبواسحاق الحويني ومحمود المصري وحتي صفوت حجازي الذي يبدو شيخاً عصرياً بزيه الافرنجي ولحيته المهذبة شكلاً.. كلهم تربوا علي الأفكار ونمط الحياة السعودي.. وكل أفكارهم وفتاواهم تصب في مصلحة السعودية إذ أنها تعلي من شأنهم وتجعل منهم أهل الإسلام وغيرهم سواء.
يركز السعوديون إذن وبشكل مكثف جداً علي الثقافة.. إنهم أرادوا منذ البداية ويخططون لذلك بإتقان لسعودة مصر وجعل نمطهم هو السائد والفاعل والمؤثر.. وقد ظهرت لذلك موجات عديدة.. منها مثلاً نشر قراءة القرآن بالأسلوب السعودي وكان قائدهم وبطلهم في ذلك الشيخ الحذيفي.. وأصبحت البيوت المصرية تعتمد في سماعها للقرآن علي الحذيفي علي حساب أباطرة المدرسة المصرية في التلاوة.. لكن هذه كانت موجة وراحت وأرجو من الله ألا تعود، كذلك كان الشيخ عبدالعزيز بن باز مفتي السعودية يمثل مرجعية هائلة لعدد كبير من المصريين، وكان من الممكن أن تسمع بسهولة لمن يقول إن الشيخ ابن باز قال أو الشيخ ابن باز عاد..
لكن هذه الموجة انحسرت أيضاً وعاد المصريون مرة ثانية لشيوخهم الكبار يأخذون عنهم دينهم.. وقد يحتار السعوديون في تفسير هذه الظاهرة.. ومصدر الحيرة أنهم لا يعرفون شيئاً عن الشعب المصري ولا عن طبيعته، فهو مثل المعدة الكبيرة التي تهضم كل شيء، ولا تحتفظ إلا بما ينفعها ويضيف إليها ويتناسب مع ذوقها، لا يمنع هذا أن يكون الشعب المصري شعب موضة يريد أن يجر، كل شيء ويتعرف علي كل شيء.. لكن في النهاية لا يبقي لديه إلا ما يرضيه ولا يصح عنده إلا الصحيح.. فنحن -يمكن أن نعتبر هذا اعترافاً- شعب مغرور يعتز بنفسه وله حق في هذا الغرور فهو يتحرك حاملاً علي كتفيه حضارة وتاريخا وتراثا وأحلاماً في مستقبل أفضل.. إنه يذهب ليعمل في السعودية وهو يعلم جيداً أنه أفضل من الجميع هناك.. وإذا رأي أحد منهم يستعرض عليه فإنه يلعنه في سره ويعتبر «كيس منفوش علي الفاضي». إن بصمات السعودية علي أماكن وأشخاص كثيرين في مصر.. وليس أمامنا إلا أن نفتح هذا الملف الكبير، وهذا حديث يطول بيننا في الأيام المقبلة.
الفجر
1 comments lost
No comments:
Post a Comment