مع البدايات الأولى لظهور الأنبياء ذوي العزم منذ إبراهيم ويعقوب ويوسف وموسى كانت الحضارات موجودة، فقد زار هؤلاء مصر ونزلوا في ضيافة الفراعين، جاءوها ليجدوا الفرعون ملكاً على دولة قوية متماسكة أنجزت حضارة كبرى تقف آثارها حتى اليوم تتحدى الزمن، وهى حضارة مشرفة بكل المقاييس رغم أنها كانت وثنية غارقة في أساطير دينية. وكان مفترضاً أن تكون حضارة الرب هي الأعلى والأبقى، وكان مفترضاً أن تكون حضارة الرب هي بداية الحضارات على الأرض وليس الحضارة المصرية أو البابلية أو الفينيقية أو الصينية ، ولو كانت الأديان تصنع حضارات لكانت جزيرة العرب هي نموذج الحضارات العظمى، و لصار الحجاز هو نموذج العالم المثالي، ولكان المفروض ألا يطالبنا أحد بالإصلاح ، بل كان المفروض أن تخرج المظاهرات في أوروبا تطالب بالشورى بدلاً من الديموقراطية وبتعدد الزوجات وبالحجاب وبالجهاد والسبي والاستعباد.
بينما المركز الجغرافي للإسلام كان بداوة جاهلية استمرت قبلية كما هي باستمرار عادات العرب وتقاليدهم المضافة إلى الإسلام، و حتى اليوم تجد مركز الإسلام في السعودية فاشلاً في إدارة مجتمعه، يستورد كل الصنائع و كل الفنيين و الخبراء على صنوفهم من مختلف بلدان العالم ، يستورد من الشماخ إلى الملابس الداخلية إلى سجادة الصلاة إلى الطائرة، وهو ما لا يمكن تسميته حضارة فهي حضارة الغير المشتراه بالبترول، ولو تم سحب العمالة الأجنبية من مهبط الوحي تنهار الدولة، فالسعودية معرض منتجات دولي، فقط هي (صاحبة الليلة) بالبترول الذي اكتشفته لها حضارة الإنسان في بلاد الغرب، صحن الكعبة من بناء شركات أجنبية عالمية، المستشفيات تستحضر أطباء من أوروبا و أمريكا رغم ما لديها من الطب النبوي، ولا تعرف لماذا لا يستثمرون أموالهم في بول الناقة بدلاً من أن يصدرونها إلينا فتاوي وأحاديث و تفاسير ما أنزل الله بها من سلطان.
إن الحضارة ليست منجزاً دينياً إنما هي منجز إنساني مفتوح ساهمت فيه البشرية من كل ملة ودين ولون وعنصر، و لم يقم الدين يوماً بصناعة حضارة فهذه شئون إنسانية بحت، فالحضارة ينتجها هيكل مدني مستقر: من النجار إلى الفلاح إلى السمكري إلى الطبيب إلى المهندس إلى القانون إلى نظام الدولة الهيكلي التراتبي الوظيفي والبيروقراطي.
وقد نجح الوثنيون في إقامة حضارات عظمي فلو كانت الوثنية معيبة ما أنتجوا ولا تحضروا، وهو مما يعني أنه لا علاقة للدين وثنياً أو سماوياً بالتحضر وإقامة الدول، فلم يثبت أن نبياً واحداً قد اقام هرماً أو مستشفي أو سد مياه، وإذا كان من مهام الدين إقامة الدول والحضارات فأين هي دولة إبراهيم ودولة نوح ويوسف والخضر وذي الكفل وذي النون وأين حضاراتهم ؟ ألم تترك أى أثر ؟
=======================
لو كانت الآلهة تصنع حضارة وكنا نحن المسلمين أصحاب أصح الأديان وأرفعها، وأصحاب الإله الواحد القهار، لكان واجباً أن تكون حضارتنا هي النموذج الذي لا يهتز للحضارة الإلهية على الأرض، وأن تكون مثلاً أبدياً لا يدانيه تقليد بشري، بينما واقعنا يقول أننا أصحاب أخيب حضارة على سطح الكوكب الأرضي، وأنه من الظلم لديننا أن ننسب إليه وإلى الرب القوي المهيمن مثل هذه الحضارة التي هى عار الإنسانية على الأرض.
ورغم ما نراه أمامنا فإن عامة المسلمين وخاصتهم وفقهاءهم يعتقدون أن اكتمال رسالة الإسلام كانت يوم قال الوحي: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"، وهو ما يعني اكتمال معارف البشرية بحيث لم يعد هناك أى إمكانية لتقديم أى جديد ، فكل المعارف مدونة في القرآن الكريم وما علينا إلا اتباعها وحفظها وترديدها وتفسيرها لنكون من العلماء، فلفظ العالم عندنا تطلق على العاملين بشئون الدين وليس بشئون الدنيا. وهذا هو العامل الثاني والأخطر في صرف المسلمين عن البحث والجد وبذل الجهد والمثابرة والشقاء وأخذ النفس بالشدة في تحصيل المعارف والعلوم التي أدت إلى تقدم المتقدمين. ويدعم الإعتقاد بأن اكتمال القرآن يعنى اكتمال المعارف من مصدرها الإلهي الأعلم بها من أى مخلوق، بقول القرآن : "وما فرطنا في الكتاب من شئ".
حتى يكون رجل الدين هو الممسك بكل عقل المسلم وروحه، اعتمد تفسير الآيات بأنه يعنى تمامية المعارف في القرآن، ولأن هذه المعارف غير واضحة بتمامها فعلى المسلم الرجوع لرجل الدين في كل شأن في حياته كبر شأنه أو صغر، ليعرف مدى مطابقته لدين الله وأوامره ونواهيه. رغم أن الآيات لا تشير إلى أى معارف، فهي تقول أكملت لكم دينكم ولا تقول أكملت لكم العلم والمعرفة و الحضارة ، والآية ما فرطنا في الكتاب من شئ ، تعني ما فرط في شئ من شئون الدين والعبادة والشعائر والنوافل... إلخ، وليس من شئون الدنيا والعلم والمعارف الإنسانية التي لا تسعها كل الكتب والمعاني المقدسة، ولا علاقة لها بها من بعيد أو قريب ، لأن الدين جاء ليعلمنا كيف نحب الله ونطيعه و نؤدي له فروضه وكيف نشكره على نعمته، ولم يأت ليعلمنا صنع الحضارة بالهندسة المعمارية والزراعية والفيزيائية والكيميائية والبيولوجية و الطبية.. إلخ.. إلخ. حتى بات المسلم الذي يعتقد أن كل هذه العلوم كمنتج حضارة موجودة في كتابه المقدس، يعيش حال تقزيم لعقله وسجن لطاقاته ومهاراته، إذ يعتقد أن العلم الإنساني الهائل كماً وكيفاً بهذه البساطة والخفة السطحية بحيث يجمعه كتاب واحد، ويكفيه أن يحفظ هذا الكتاب وحده ليكون قد علم كل شئ علم اليقين، ومن ثم لا يرى العلم رؤية سليمة حقيقية تحفظ له قيمته واحترامه وقدسيته، ولا هو بقادر على إنجاز أى شئ بعد أن أنجز الله كل شئ.
الحضارة تقوم على قدسية العقل البشري والثقة في ممكناته وطاقاته، بينما كان الشيخ جاد الحق شيخ الجامع الأزهر أى رجل العلم الأعلى بين المسلمين، يخرج علينا في التليفزيون ليقول: "أخطأ اليونان قديماً حينما استمسكوا بالعقل واعتزوا بمنطقه، وأخطأنا نحن حين أخذنا عنهم هذه النقيصة".
د. سيد القمنى
من رواد الليبرالية والفكر التنويري في مصر
No comments:
Post a Comment