أخطاء مفتي الديار المصرية
تعددت أخطاء مفتي الديار المصرية في الآونة الأخيرة، إذ تعاقبت تصريحاته المدهشة، واحداً بعد الآخر مما أصاب الرأي العام المصري، من مثقفين وغير مثقفين علي السواء، بصدمة بعد أخري تنطوي علي شيء من الشعور بالإحباط، إذ تصدر مثل هذه الآراء من صاحب واحد من أعلي المناصب الدينية في البلاد،
فلم يمر شهران أو ثلاثة علي قوله الشهير عن قيام الصحابة بشرب بول الرسول، صلي الله عليه وسلم، طلباً للبركة، حتي عبر عن رأي آخر مدهش في غرق ١٨٤ مصرياً، أثناء عبورهم البحر المتوسط بأمل النجاح في الدخول إلي إيطاليا، بطريق غير قانوني والعثور علي عمل مجز بعد يأسهم من الحصول عليه في مصر
وصف المفتي هؤلاء بـ «الطماعين» إذ يسعون إلي مزيد من المال، ورفض أن يعتبرهم «شهداء»، واعتبر أن دفع كل منهم مبلغ ٢٥ ألف جنيه لمهربي الأنفار ومنظمي هذه الرحلة المشؤومة، دليل علي الثراء، وأشار في تبرير رفضه اعتبارهم شهداء، فضلاً عن أنهم «طماعون»، أنهم أرادوا أن يدخلوا إيطاليا بطريقة غير قانونية... هل هذا هو نوع الآراء التي يتوقع أو يحب المرء أن تصدر من رجل دين، ناهيك عن واحد من أرفع رجال الدين منصباً!.
المفترض في رجل الدين أن يتحلي، فضلاً عن معرفته الواسعة بالدين، بثلاث صفات إنسانية علي الأقل: «التعاطف مع البائسين، والتواضع، والانتصار للمظلوم ضد الظالم»، وقد وجدت هذا التصريح الأخير للمفتي خالياً تماماً من أي من الصفات الثلاث.
إن المصريين جميعاً أحسوا بوجع في القلب، عندما سمعوا أو قرأوا عن الحادث، وعندما توالي نشر أخبار انتشال الغرقي والبحث عن المزيد منهم، ثم عن «شحن» جثامينهم بالطائرة، ثم عن وصول هذه الجثامين إلي مطار القاهرة، وعندما رأينا صور الغرقي قبل سفرهم، وكلهم شبان جميلو الصورة كانوا جديرين بزواج سعيد وحياة طويلة فلم يظفروا بأيهما،
ثم رأينا صور أهلهم، وقد جلست كل عائلة علي الرصيف في انتظار جثمان ابنهم، وعليهم كل سمات الفقر، مما يؤكد ما سمعناه من أن الخمسة والعشرين ألف جنيه قد تم الحصول عليها بالاقتراض و«قيل بفوائد باهظة»،
أو ببيع قيراط أو قيراطين ورثهما الأب، أو ببيع إسورة أو كردان كانت تحتفظ به الأم أو الأخت لكي تبيعه، عندما تحتاج إلي إجراء عملية جراحية لا تملك ثمنها، أو لاتقاء أي مصيبة أخري.
لم يحرك شيء من هذا قلب المفتي، فيما يبدو، فلم يلفت نظره إلا مبلغ الخمسة والعشرون ألف جنيه، واعتبر حيازة هذا المبلغ دليلاً علي الثراء، ومن ثم اعتبر الإصرار علي السفر إلي إيطاليا دليلاً علي الطمع.
أما فضيلة التواضع فكنا نتمني أن يتحلي بها فضيلة المفتي عندما يعلن عما إذا كان المتوفي في هذه الحالة شهيداً أو غير شهيد، نحن في الحقيقة لا نملك إجابة قاطعة عن هذا السؤال، فالأمر في النهاية في يد الله تعالي،
و الله تعالي يعرف بلا شك عن المتوفين غرقاً كل ما يلزم للحكم بما إذا كانوا يستحقون أو لا يستحقون معاملة الشهداء، والمفتي بلا شك لا يعرف كل ما يلزم لإصدار هذا الحكم، بدليل خطئه باعتبارهم ميسورين وطماعين وهم ليسوا كذلك، فمن أين أتي المفتي بهذه الثقة المدهشة في أن هؤلاء ليسوا بشهداء؟ لماذا لا يعبر عن رأيه، بعبارة أكثر تواضعاً ويترك الأمر كله لله؟
خاصة أن رأياً كهذا لابد أن يصيب أهالي المتوفين بألم مضاعف، ليس فقط لاستخدام المفتي لفظ «الطماعين» في وصف أبنائهم، بل لأنه في نهاية الأمر «مفتي الديار المصرية»، والشائع أنه يعرف الحقيقة كلها في مثل هذه الأمور بما في ذلك ما إذا كان الله تعالي سوف يعامل أحداً كشهيد أو كمجرد شخص طماع.
أما عن الانتصار للمظلوم ضد الظالم، فلماذا يلقي المفتي بكل ثقله إلي جانب السلطة، التي حرمت هؤلاء البؤساء من فرص العمل، واضطرتهم إلي المغامرة بحياتهم للعثور علي ما فقدوه في مصر؟، ولماذا هذا التأكيد علي أن محاولة دخول إيطاليا عمل غير قانوني أو شرعي؟ هل هو مفتي الديار المصرية أم مفتي السلطة أم مفتي الديار الإيطالية؟
هذه فتوي لابد أن تفرح بها الحكومة، فهي لا تتضمن كلمة واحدة عن المسؤولين عن بؤس هؤلاء الشباب، وتوجه اللوم كله لهؤلاء الشبان أنفسهم، فتخرج الحكومة من الأمر كله، خروج الشعرة من العجين، بل ربما فرحت السلطات الإيطالية أيضاً بهذه الفتوي، إذ إنها تنتصر للقانون الإيطالي ضد الشباب المصري، فلماذا يصر المفتي علي إصدار فتاوي من هذا النوع، مما قد يكون مفهوماً إذا صدر من وزير الداخلية المصري أو الإيطالي، ولكنه لا يمكن قبوله من مفتي الديار المصرية؟.
د. جلال أمين
1 comment lost
فلم يمر شهران أو ثلاثة علي قوله الشهير عن قيام الصحابة بشرب بول الرسول، صلي الله عليه وسلم، طلباً للبركة، حتي عبر عن رأي آخر مدهش في غرق ١٨٤ مصرياً، أثناء عبورهم البحر المتوسط بأمل النجاح في الدخول إلي إيطاليا، بطريق غير قانوني والعثور علي عمل مجز بعد يأسهم من الحصول عليه في مصر
وصف المفتي هؤلاء بـ «الطماعين» إذ يسعون إلي مزيد من المال، ورفض أن يعتبرهم «شهداء»، واعتبر أن دفع كل منهم مبلغ ٢٥ ألف جنيه لمهربي الأنفار ومنظمي هذه الرحلة المشؤومة، دليل علي الثراء، وأشار في تبرير رفضه اعتبارهم شهداء، فضلاً عن أنهم «طماعون»، أنهم أرادوا أن يدخلوا إيطاليا بطريقة غير قانونية... هل هذا هو نوع الآراء التي يتوقع أو يحب المرء أن تصدر من رجل دين، ناهيك عن واحد من أرفع رجال الدين منصباً!.
المفترض في رجل الدين أن يتحلي، فضلاً عن معرفته الواسعة بالدين، بثلاث صفات إنسانية علي الأقل: «التعاطف مع البائسين، والتواضع، والانتصار للمظلوم ضد الظالم»، وقد وجدت هذا التصريح الأخير للمفتي خالياً تماماً من أي من الصفات الثلاث.
إن المصريين جميعاً أحسوا بوجع في القلب، عندما سمعوا أو قرأوا عن الحادث، وعندما توالي نشر أخبار انتشال الغرقي والبحث عن المزيد منهم، ثم عن «شحن» جثامينهم بالطائرة، ثم عن وصول هذه الجثامين إلي مطار القاهرة، وعندما رأينا صور الغرقي قبل سفرهم، وكلهم شبان جميلو الصورة كانوا جديرين بزواج سعيد وحياة طويلة فلم يظفروا بأيهما،
ثم رأينا صور أهلهم، وقد جلست كل عائلة علي الرصيف في انتظار جثمان ابنهم، وعليهم كل سمات الفقر، مما يؤكد ما سمعناه من أن الخمسة والعشرين ألف جنيه قد تم الحصول عليها بالاقتراض و«قيل بفوائد باهظة»،
أو ببيع قيراط أو قيراطين ورثهما الأب، أو ببيع إسورة أو كردان كانت تحتفظ به الأم أو الأخت لكي تبيعه، عندما تحتاج إلي إجراء عملية جراحية لا تملك ثمنها، أو لاتقاء أي مصيبة أخري.
لم يحرك شيء من هذا قلب المفتي، فيما يبدو، فلم يلفت نظره إلا مبلغ الخمسة والعشرون ألف جنيه، واعتبر حيازة هذا المبلغ دليلاً علي الثراء، ومن ثم اعتبر الإصرار علي السفر إلي إيطاليا دليلاً علي الطمع.
أما فضيلة التواضع فكنا نتمني أن يتحلي بها فضيلة المفتي عندما يعلن عما إذا كان المتوفي في هذه الحالة شهيداً أو غير شهيد، نحن في الحقيقة لا نملك إجابة قاطعة عن هذا السؤال، فالأمر في النهاية في يد الله تعالي،
و الله تعالي يعرف بلا شك عن المتوفين غرقاً كل ما يلزم للحكم بما إذا كانوا يستحقون أو لا يستحقون معاملة الشهداء، والمفتي بلا شك لا يعرف كل ما يلزم لإصدار هذا الحكم، بدليل خطئه باعتبارهم ميسورين وطماعين وهم ليسوا كذلك، فمن أين أتي المفتي بهذه الثقة المدهشة في أن هؤلاء ليسوا بشهداء؟ لماذا لا يعبر عن رأيه، بعبارة أكثر تواضعاً ويترك الأمر كله لله؟
خاصة أن رأياً كهذا لابد أن يصيب أهالي المتوفين بألم مضاعف، ليس فقط لاستخدام المفتي لفظ «الطماعين» في وصف أبنائهم، بل لأنه في نهاية الأمر «مفتي الديار المصرية»، والشائع أنه يعرف الحقيقة كلها في مثل هذه الأمور بما في ذلك ما إذا كان الله تعالي سوف يعامل أحداً كشهيد أو كمجرد شخص طماع.
أما عن الانتصار للمظلوم ضد الظالم، فلماذا يلقي المفتي بكل ثقله إلي جانب السلطة، التي حرمت هؤلاء البؤساء من فرص العمل، واضطرتهم إلي المغامرة بحياتهم للعثور علي ما فقدوه في مصر؟، ولماذا هذا التأكيد علي أن محاولة دخول إيطاليا عمل غير قانوني أو شرعي؟ هل هو مفتي الديار المصرية أم مفتي السلطة أم مفتي الديار الإيطالية؟
هذه فتوي لابد أن تفرح بها الحكومة، فهي لا تتضمن كلمة واحدة عن المسؤولين عن بؤس هؤلاء الشباب، وتوجه اللوم كله لهؤلاء الشبان أنفسهم، فتخرج الحكومة من الأمر كله، خروج الشعرة من العجين، بل ربما فرحت السلطات الإيطالية أيضاً بهذه الفتوي، إذ إنها تنتصر للقانون الإيطالي ضد الشباب المصري، فلماذا يصر المفتي علي إصدار فتاوي من هذا النوع، مما قد يكون مفهوماً إذا صدر من وزير الداخلية المصري أو الإيطالي، ولكنه لا يمكن قبوله من مفتي الديار المصرية؟.
د. جلال أمين
1 comment lost
No comments:
Post a Comment